خلق الكون
صفحة 1 من اصل 1
خلق الكون
هذا الكون بسماواته وأرضه ونجومه ومجراته وبحاره وأشجاره وسائر حيواناته خلقه الله سبحانه وتعالى من عدم ، قال تعالى : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ }{ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ }{ ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ }{ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ } (1) وقال جل ثناؤه : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ }{ وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ
_________
(1) سورة فصلت الآيات : 9 - 12 .
يَهْتَدُونَ }{ وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } (1) .
_________
(1) سورة الأنبياء ، الآيات : 30 - 32 ، وانظر أيضا إلى أول سورة الرعد .
هذا الكون خلقه الله لحكم عظيمة تجل عن الحصر ، ففي كل جزء منه حكم عظيمة ، وآيات باهرة ، ولو تأملت آية واحدة منها لوجدت فيها عجبا ، فانظر إلى عجائب صنع الله في النبات التي لا تكاد تخلو ورقة منه ولا عرق ولا ثمرة من منافع تعجز عقول البشر عن الإحاطة بها وتفاصيلها ، وانظر إلى مجاري الماء في تلك العروق الرقيقة الضئيلة الضعيفة التي لا يكاد البصر يدركها إلا بعد تحديقه ، كيف تقوى على اجتذاب الماء من أسفل إلى أعلى ، ثم يتنقل في تلك المجاري بحسب قبولها وسعتها ، ثم تتفرق وتتشعب وتدق إلى غاية لا ينالها البصر ، ثم انظر إلى تكون حمل الشجرة ونقلته من حال إلى حال ، كتنقل أحوال الجنين المغيب عن الأبصار ، بينا تراها حطبا عاريا لا كسوة عليها إذ كساها ربها وخالقها من الورق أحسن كسوة ، ثم أطلع فيها حملها ضعيفا ضئيلا بعد أن أخرج ورقها صيانة له ، وثوبا لتلك الثمرة ، الضعيفة لتستجن به من الحر والبرد والآفات ، ثم ساق إلى تلك الثمار رزقها وغذاها في تلك العروق والمجاري فتغذت به ، كما يتغذى الطفل بلبن أمه ، ثم رباها ونماها حتى استوت وكملت وتناهى إدراكها فأخرج ذلك الجني اللذيذ اللين من تلك الحطبة الصماء .
وأنت إذا نظرت إلى الأرض وكيف خلقت ، رأيتها من أعظم آيات فاطرها ومبدعها ، خلقها سبحانه فراشا ومهادا وذللها لعباده ، وجعل فيها أرزاقهم وأقواتهم ومعايشهم ، وجعل فيها السبل لينتقلوا فيها في حوائجهم وتصرفاتهم ، وأرساها بالجبال فجعلها أوتادا تحفظها لئلا تميد ، ووسع أكنافها ، ودحاها فمدها وبسطها ، وجعلها كفاتا للأحياء تضمهم على ظهرها ، وكفاتا للأموات تضمهم في بطنها إذا ماتوا ، فظهرها وطن للأحياء ، وبطنها وطن للأموات ، ثم انظر إلى هذا الفلك الدوار بشمسه وقمره ونجومه وبروجه ، وكيف يدور على هذا العالم هذا الدوران الدائم إلى آخر الأجل على هذا الترتيب والنظام ، وما في طي ذلك من اختلاف الليل والنهار والفصول والحر والبرد ، وما في ضمن ذلك من مصالح ما على الأرض من أصناف الحيوان والنبات .
ثم تأمل خلق السماء ، وارجع البصر فيها كرة بعد كرة تراها من أعظم الآيات في علوها وسعتها وقرارها ، فلا عمد تحتها ، ولا علاقة فوقها ، بل هي ممسوكة بقدرة الله الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا .
وأنت إذا نظرت إلى هذا الكون وتأليف أجزائه ، ونظمها على أحسن نظام - يدل على كمال قدرة خالقه ، وكمال علمه ، وكمال حكمته ، وكمال لطفه - وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع آلاته ومصالحه ، وكل ما يحتاج إليه ، فالسماء سقفه المرفوع عليه ، والأرض مهاد وبساط وفراش مستقر للساكن ، والشمس والقمر سراجان يزهران فيه ، والنجوم مصابيحه وزينته ، تدل المتنقل في طرق هذه الدار ، والجواهر والمعادن مخزونة فيه كالذخائر المهيأة ، كل شيء منها لشأنه الذي يصلح له ، وصنوف النبات مهيأ لمآربه ، وصنوف الحيوان مصروفة لمصالحه ، فمنها الركوب ، ومنها الحلوب ، ومنها الغذاء ، ومنها اللباس ، ومنها الحرس ، وجعل الإنسان كالملك المخول في ذلك المتصرف فيه بفعله وأمره .
وأنت لو تأملت هذا الكون كله أو جزءا من أجزائه لوجدت فيه عجبا ، ولو تمعنت فيه تمام الإمعان ، وأنصفت من نفسك ، وتخلصت من ربقة الهوى والتقليد لأيقنت تمام اليقين أن هذا الكون مخلوق ، خلقه حكيم قدير عليم ، قدره أحسن تقدير ، ونظمه أحسن نظام ، وأن الخالق يستحيل أن يكون اثنين ، بل الإله واحد لا إله إلا هو ، وأنه لو كان في السماوات والأرض إله غير الله لفسد أمرهما ، واختل نظامها ، وتعطلت مصالحها .
فإن أبيت إلا أن تنسب الخلق إلى غير خالقه ، فما تقول في دولاب دائر على نهر قد أحكمت آلاته ، وأحكم تركيبه ، وقدرت أدواته أحسن تقدير وأبلغه ، بحيث لا يرى الناظر فيه خللا في مادته ، ولا في صورته ، وقد جعل على حديقة عظيمة فيها من كل أنواع الثمار يسقيها حاجتها ، وفي تلك الحديقة من يلم شعثها ، ويحسن مراعاتها وتعهدها والقيام بجميع مصالحها ، فلا يختل منها شيء ولا يتلف ثمارها ، ثم يقسم قيمتها عند الجذاذ على سائر المخارج بحسب حاجاتهم وضروراتهم ، لكل صنف ما يليق به ، ويقسم هكذا على الدوام .
أترى هذا وقع اتفاقا بلا صانع ولا مختار ولا مدبر ؟ بل اتفق وجود ذلك الدولاب والحديقة ، وكل ذلك اتفاقا من غير فاعل ولا مدبر ، أفترى ما يقول لك عقلك في ذلك لو كان ؟ وما الذي يفتيك به ؟ وما الذي يرشدك إليه ؟ (1)
الحكمة من ذلك :
_________
(1) هذه الفترة تم استخلاصها من مواطن متفرقة من مفتاح دار السعادة ، جـ 1 ، ص : 251 - 269 .
بعد هذا التطواف والتأمل في خلق هذا الكون يحسن بنا أن نذكر بعض الحكم التي من أجلها خلق الله هذه الكائنات العظيمة والآيات الباهرة فمن ذلك : 1 - التسخير للإنسان : لما قضى الله أن يجعل في هذه الأرض خليفة يعبده فيها ، ويعمر هذه الأرض خلق لأجله كل ذلك ، لتستقيم حياته ، ويصلح له أمر معاشه ومعاده ، قال تعالى : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ } (1) ، وقال جل ثناؤه : { اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ }{ وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ }{ وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } (2) .
_________
(1) سورة الجاثية ، الآية : 13 .
(2) سورة إبراهيم ، الآيات : 32 - 34 .
2 - أن تكون السماوات والأرض وسائر ما في الكون شواهد على ربوبية الله ، وآيات على وحدانيته : ذلك أن أعظم أمر في هذا الوجود هو الإقرار بربوبيته والإيمان بوحدانيته ، ولأنه أعظم أمر فقد أقام عليه أعظم الشواهد ، ونصب له أكبر الآيات ، واحتج له بأبلغ الحجج ، فأقام سبحانه السماوات والأرض وسائر الموجودات لتكون شاهدة على ذلك ، ولذا يكثر في القرآن ورود : { وَمِنْ آيَاتِهِ } ، كما في قوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ } ، { وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ } ، { وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا } ، { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ } (1) .
_________
(1) سورة الروم ، من الآيات : 22 - 25 .
3 - أن تكون شاهدة على البعث : لما كانت الحياة حياتين : حياة في الدنيا ، وحياة في الدار الآخرة ، وحياة الدار الآخرة هي الحياة الحقيقية ، قال تعالى : { وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ } (1) لأنها دار الجزاء والحساب ، ولأن فيها الخلود الأبدي في النعيم لأهله ، والخلود الأبدي في العذاب لأهله .
_________
(1) سورة العنكبوت ، الآية : 64 .
ولما كانت هذه الدار لا يصل إليها الإنسان إلا بعدما يموت ويبعث بعد موته ، أنكر ذلك كل من انقطعت صلته بربه ، وانتكست فطرته ، وفسد عقله ، فلأجل ذلك نصب الله الحجج وأقام البراهين ، حتى تؤمن بالبعث النفوس ، وتوقن به القلوب ، لأن إعادة الخلق أهون من إيجاده أول مرة ، بل خلق السماوات والأرض أعظم من إعادة خلق الإنسان ، قال تعالى : { وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } (1) ، وقال تعالى : { لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ } (2) ، وقال جل ثناؤه : { اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } (3) .
وبعد يا أيها الإنسان :
_________
(1) سورة الروم ، الآية : 27 .
(2) سورة غافر ، الآية : 57 .
(3) سورة الرعد ، الآية : 2 .
إذا كان كل هذا الكون سخر من أجلك ، وإذا انتصبت آياته وأعلامه شواهد أمام ناظريك تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وإذا علمت أن بعثك وحياتك بعد موتك أهون من خلق السماوات والأرض ، وأنك ملاق ربك فمحاسبك على عملك ، وإذا علمت أن هذا الكون كله عابد لربه فكل مخلوقاته تسبح بحمد ربها ، قال تعالى : { يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ } (1) ، وتسجد لعظمته ، قال جل ثناؤه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ } (2) ، بل هذه الكائنات تصلي لربها صلاة تناسبها ، قال عز اسمه : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } (3) .
_________
(1) سورة الجمعة ، الآية : 1 .
(2) سورة الحج ، الآية : 18 .
(3) سورة النور ، الآية : 41 .
وإذا كان جسمك يسير في نظامه وفق تقدير الله وتدبيره فالقلب والرئتان والكبد وسائر الأعضاء مستسلمة لربها ، مسلمة قيادها لربها ، أفيكون قرارك الاختياري الذي خيرت فيه بين أن تؤمن بربك ، وبين أن تكفر به ، أفيكون هذا القرار هو النشاز والشذوذ عن هذه المسيرة المباركة في الكون من حولك بل وفي بدنك .
إن الإنسان العاقل الكامل يربأ بنفسه أن يكون هو الشذوذ والنشاز في خضم هذا الكون العظيم الفسيح .
الكتاب : الإسلام أصوله ومبادؤه
المؤلف : محمد بن عبد الله بن صالح السحيم
الطبعة : الأولى
الناشر : وزارة الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد - المملكة العربية السعودية
تاريخ النشر : 1421هـ
عدد الصفحات : 178
عدد الأجزاء : 1
اللهم اغفر لكاتبها وناقلها,وقارئها واهلهم وذريتهم واحشرهم معا سيد المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم
<<< علمـني كيـف آنسـآأإكـ- المراقب العام
- عدد المساهمات : 103
تاريخ التسجيل : 25/10/2011
العمر : 34
الموقع : جده
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى